المساعدات الأوروبية في ميزان الهجرة.. هل تتحول التنمية إلى وسيلة ضغط على إفريقيا؟
المساعدات الأوروبية في ميزان الهجرة.. هل تتحول التنمية إلى وسيلة ضغط على إفريقيا؟
في قلب الجدل المتصاعد حول الهجرة غير الشرعية، يلوح اقتراح جديد من المفوضية الأوروبية يحمل في طياته تحوّلًا عميقًا في فلسفة التعاون التنموي مع إفريقيا، إذ يسعى الاتحاد الأوروبي إلى ربط المساعدات المالية والتنموية المقدمة للبلدان الإفريقية بمدى تعاون هذه الدول في ملف إعادة المهاجرين المرحّلين وتشديد الرقابة على الحدود.. خطوة وُصفت من قبل منظمات حقوقية وإنسانية بأنها تشويه صريح لأهداف التنمية وتحويل لآليات الدعم إلى أداة ابتزاز سياسي.
هذا التحوّل الاستراتيجي يأتي في ظل تصاعد الضغوط الداخلية على حكومات أوروبية تواجه معارضة شعبية متنامية تجاه الهجرة غي النظامية، خاصة في دول مثل ألمانيا وإيطاليا واليونان، حيث تحوّلت الهجرة إلى ملف سياسي حاد يُستثمر في الحملات الانتخابية.
إفريقيا حارس حدود أم شريك تنموي؟
من منظور إنساني وتحليلي، يتساءل الخبراء: هل يمكن لتلك السياسات أن تُعالج جوهر الأزمة أم أنها تُفاقمها؟ إذ يُحذر باحثون ومحللون أفارقة من أن هذه الخطط لا تعكس روح الشراكة بقدر ما تُكرس علاقة غير متكافئة بين أوروبا وإفريقيا، حيث تتحول الدول الإفريقية إلى حراس حدود للقارة الأوروبية، بدلًا من اعتبارها شريكًا متساويًا في التنمية.
تقول ماريا أيوك، الباحثة في جامعة ماغديبورغ الألمانية: الهجرة يجب أن تُدار بشكل منظم، لكن لا يجب أن تُستخدم أداة ضغط سياسية. نحن بحاجة إلى شراكة قائمة على الاحترام والمساواة والعدالة وفق شبكة "دويتشة فيله".
ويؤكد خبراء الهجرة الأفارقة أن هذا التوجه يعيد إحياء النزعات الاستعمارية في العلاقة مع القارة الإفريقية، بما يقوض السيادة والثقة المتبادلة، ويُكرس تبعية سياسية واقتصادية جديدة.
الأرقام تكشف تناقضات السياسة الأوروبية
بحسب أحدث بيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بلغ عدد المهاجرين غير النظاميين الذين حاولوا عبور البحر الأبيض المتوسط نحو أوروبا خلال عام 2024 ما يزيد على 150 ألف شخص، معظمهم قادمون من دول إفريقيا جنوب الصحراء، وتشير إحصاءات الاتحاد الأوروبي إلى أن ما يقارب 70% من هؤلاء المهاجرين يُعاد ترحيلهم أو يُحتجزون في مراكز إيواء مكتظة، في ظل إجراءات أمنية مشددة.
ورغم التراجع النسبي في عدد الوافدين مقارنة بذروة أزمة 2015–2016، فإن الخطاب السياسي الأوروبي نحو الهجرة ازداد تشددًا، مع ارتفاع أصوات تطالب باستخدام أدوات اقتصادية ودبلوماسية للحد من تدفق المهاجرين.
تسييس التنمية وتحويلها إلى أداة ردع
في هذا السياق، يرى مراقبون أن ربط المساعدات بمؤشرات النجاح في كبح الهجرة يُحوّل الدعم التنموي من غايته الأصلية في مكافحة الفقر وتعزيز التنمية المستدامة إلى أداة ردع، تُستخدم للضغط على الحكومات الإفريقية لقبول إعادة المهاجرين وتشديد الرقابة على حدودها.
وتحذر منظمة أوكسفام من أن هذا النهج قد يؤدي إلى تسييس التنمية وتحويلها من تضامن حقيقي إلى وسيلة لتحقيق مصالح قصيرة الأجل، الأمر الذي يهدد استدامة مشروعات تنموية قائمة منذ سنوات.
من جانبها، عدت المفوضية الأوروبية أن السياسة الجديدة أداة ضرورية لضمان التعاون الكامل من الدول الشريكة، لكنها لم توضح بشكل شفاف كيف ستوازن بين الالتزامات الأخلاقية تجاه التنمية واحترام حقوق الإنسان.
تجاهل الجذور العميقة للهجرة
الخبراء الأفارقة يشددون على أن السياسة الأوروبية الحالية بشأن الهجرة تتجاهل الأسباب الجذرية التي تدفع آلاف الشباب الأفارقة إلى المخاطرة بحياتهم في قوارب متهالكة، فإلى جانب الفقر ونقص فرص العمل، تلعب الأزمات السياسية المزمنة والنزاعات المسلحة دورًا رئيسيًا في الهجرة.
يُضاف إلى ذلك، بحسب باحثين مثل أوفوسو من جامعة أكرا، أن السياسات التجارية الأوروبية غير العادلة واستنزاف الموارد الطبيعية الإفريقية ساهمت في إضعاف الاقتصادات المحلية، ما فاقم دوافع الهجرة.
ويرى أوفوسو أن أوروبا تنظر إلى المهاجر كتهديد أمني، بينما هو في الحقيقة ضحية لهيكل اقتصادي عالمي غير عادل.
ازدواجية المعايير.. أوكرانيا نموذجاً
واحدة من أكثر الانتقادات حدةً تتعلق بما يصفه خبراء بـازدواجية المعايير في التعامل الأوروبي مع الأزمات الإنسانية، فبينما فتحت أوروبا حدودها أمام ملايين الأوكرانيين الفارين من الحرب منذ 2022، شددت القيود على استقبال المهاجرين واللاجئين من إفريقيا والشرق الأوسط.
يقول إيجيمي، المحلل في شؤون الهجرة: عندما يكون اللاجئ إفريقيًا، تتحول الأزمة إلى ملف أمني. لكن عندما يكون أوروبيًا، تصبح أزمة إنسانية تتطلب التضامن.
النتائج العكسية المحتملة
إلى جانب البُعد الإنساني، يُحذر بعض الخبراء الأوروبيين من أن هذه السياسات قد تأتي بنتائج عكسية، إذ قد تلجأ بعض الدول الإفريقية المتضررة من خفض المساعدات إلى تعميق شراكاتها مع قوى صاعدة مثل الصين والهند والبرازيل وروسيا، وهو ما قد يُقلل من النفوذ الأوروبي في القارة على المدى الطويل.
ويؤكد أوفوسو: "كلما زادت سياسات العزل والتقييد من جانب أوروبا، تحركت إفريقيا نحو شراكات بديلة ضمن الجنوب العالمي".
مسؤولية مشتركة أم استقالة أخلاقية؟
في قلب هذا الجدل تبرز معضلة أخلاقية: هل يجوز أن تتحول المساعدات التي يُفترض أن تُقدم وفق مبادئ إنسانية، إلى ورقة مساومة سياسية؟ أم أن من حق أوروبا أن تستخدم نفوذها الاقتصادي للحد من الهجرة غير الشرعية التي تُرهق نظمها الاجتماعية والأمنية؟
في المقابل، يرى باحثون أن القارة الإفريقية نفسها تتحمل جانبًا من المسؤولية، خاصة في ظل غياب إرادة سياسية موحدة، وضعف المؤسسات الإقليمية، واستمرار بعض النخب الحاكمة في استغلال ملف الهجرة سياسيًا، منوهين أنه من المفترض أن تمثل الحكومات الإفريقية مصالح شعوبها، لكن الواقع أنها غالبًا ما تدافع عن مصالحها الخاصة فقط.
نحو شراكة عادلة وشاملة
يتفق معظم الخبراء على أن معالجة ملف الهجرة تتطلب رؤية أوسع تُعالج الأسباب الجذرية للفقر وعدم الاستقرار، بدلًا من التركيز فقط على بناء الأسوار والحواجز.
ويرون أن نجاح أي سياسة أوروبية طويلة الأمد يعتمد على مدى قدرتها على بناء شراكات حقيقية مع إفريقيا قائمة على الاستثمار في التعليم والصحة والتنمية المستدامة، لا مجرد استغلال المساعدات أداة ضغط.
وتظل الهجرة ظاهرة معقدة مرتبطة بتاريخ طويل من الاستعمار والفوارق الاقتصادية العالمية، وتحويل التنمية إلى أداة ردع قد يوفر حلولًا مؤقتة، لكنه يُهدد بتقويض الثقة، وزرع مزيد من الإحباط في نفوس ملايين الشباب الأفارقة، الذين يرون في الهجرة أملًا أخيرًا للهروب من واقعهم القاسي.